فصل: الفصل السادس عشر في كشف الغطاء عن المتشابه من الكتاب والسنة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  الفصل الرابع عشر في علوم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

إنا نجد هذا الصنف من البشرتعتريهم حالة إلهية خارجة عن منازع البشر وأحوالهم فتغلب الوجهة الربانية فيهم على البشرية في القوى الإدراكية والنزوعية من الشهوة والغضب وسائر الأحوال البدنية فتجدهم متنزهين عن الأحوال الربانية من العبادة والذكر لله بما يقتضي معرفتهم به مخبرين عنه بما يوحى إليهم في تلك الحالة من هداية الأمة على طريقة واحدة وسنن معهود منهم لا يتبدل فيهم كأنه جبلة فطرهم الله عليها‏.‏ وقد تقدم لنا الكلام في الوحي أول الكتاب في فصل المدركين للغيب‏.‏ وبينا هنالك أن الوجود كله في عوالمه البسيطة والمركبة على تركيب طبيعي من أعلاها وأسفلها متصلة كلها اتصالاً لا ينخرم‏.‏ وأن الذوات التي في آخر كل أفق من العوالم مستعدة لأن تنقلب إلى الذات التي تجاورها من الأسفل والأعلى استعداداً طبيعياً كما في العناصر الجسمانية البسيطة وكما في النخل والكرم من آخر أفق النبات مع الحلزون والصدف من أفق الحيوان وكما في القردة التي استجمع فيها الكيس والإدراك مع الإنسان صاحب الفكر والرويه‏.‏ وهذا الاستعداد الذي في جانبي كل أفق من العوالم هو معنى الاتصال فيها‏.‏ وفوق العالم البشر في عالم روحاني شهدت لنا به الآثار التي فينا منه بما يعطينا من قوى الإدراك والإرادة فذوات العلم العالم إدراك صرف وتعقل محض وهو عالم الملائكة فوجب من ذلك كله أن يكون للنفس الإنسانية استعداد للإنسلاخ من البشرية إلى الملكية لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتاً من الأوقات وفي لمحة من اللمحات‏.‏ ثم تراجع بشريتها وقد تلقت في عالم الملكية ما كفلت بتبليغه إلى أبناء جنسها في البشر‏.‏ وهذا هو معنى الوحي وخطاب الملائكة‏.‏ والأنبياء كلهم مفطورون عليه كأنه جبلة لهم ويعالجون في ذلك الانسلاخ من الشدة والغطيط ما هو معروف عنهم‏.‏ وعلومهم في تلك الحالة علم شهادة وعيان لا يلحقه الخطأ والزلل ولا يقع فيه الغلط والوهم بل المطابقة قيه ذاتية لزوال حجاب الغيب وحصول الشهادة الواضحة عند مفارقة هذه الحالة إلى البشرية لا يفارق علمهم الوضوح استصحاباً له من تلك الحالة الأولى ولما هم عليه من الذكاء المفضي بهم إليها يتردد ذلك فيهم دائماً إلى أن تكمل هداية الأمة التي بعثوا لها كما في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستنفروه ‏"‏‏.‏ فافهم ذلك وراجع ما قدمناه لك أول الكتاب في أصناف المدركين للغيب يتضح لك شرحه وبيانه فقد بسطناه هنالك بسطاً شافياً‏.‏ والله الموفق‏.‏

  الفصل الخامس عشر في أن الإنسان جاهل بالذات عالم بالكسب

قد بينا أول هذه الفصول أن الإنسان من جنس الحيوانات وأن الله تعالى ميزه عنها بالفكر الذي جعل له يوقع به أفعاله على انتظام وهو العقل التمييزي أو يقتنص به العلم بالآراء والمصالح والمفاسد من أبناء جنسه وهو العقل التجريبي أو يحصل به في تصور الموجودات غائباً وشاهداً على ما هي عليه وهو العقل النظري‏.‏ وهذا الفكر إنما يحصل له بعد كمال الحيوانية فيه ويبدأ من التمييز فهو قبل التمييز خلو من العلم بالجملة معدود من الحيوانات لاحق بمبدئه في التكوين من النطفة والعلقة والمضغة‏.‏ وما حصل له بعد ذلك فهو بما جعل الله له من مدارك الحس والأفئدة التي هي الفكر‏.‏ قال تعالى في الامتنان علينا‏:‏ ‏"‏ وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ‏"‏ فهو في الحالة الأولى قبل التمييز هيولا فقط لجهله بجميع المعارف‏.‏ ثم تستكمل صورته بالعلم الذي يكتسبه بآلاته فكمل ذاته الإنسانية في وجودها‏.‏ وانظر إلى قولى تعالى مبدأ الوحي على نبيه‏:‏ ‏"‏ اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ‏"‏ أي أكسبه من العلم ما لم يكن حاصلاً له بعد أن كان علقة ومضغة فقد كشفت لنا طبيعته وذاته ما هوعليه من الجهل الذاتي والعلم الكسبي وأشارت إليه الآية الكريمة تقرر فيه الامتنان عليه بأول مراتب وجوده وهي الإنسانية‏.‏ وحالتاه الفطرية والكسبية في أول التنزيل ومبدأ الوحي‏.‏ وكان الله عليماً حكيماً‏.‏

  الفصل السادس عشر في كشف الغطاء عن المتشابه من الكتاب والسنة

وما حدث لأجل ذلك من طوائف السنية والمبتدعة في الاعتقادات إعلم أن الله سبحانه بعث إلينا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى النجاة والفوز بالنعيم وأنزل عليه الكتاب الكريم باللسان العربي المبين يخاطبنا فيه بالتكاليف المفضية بنا إلى ذلك‏.‏ وكان في خلال هذا الخطاب ومن ضروراته ذكر صفاته سبحانه وأسمائه ليعرفنا بذاته وذكر الروح المتعلقة بنا وذكر الوحي والملائكة الوسائط بينه وبين رسله إلينا‏.‏ وذكر لنا يوم البعث وإنذاراته ولم يعين لنا الوقت في شيء منه‏.‏ وثبت في هذا القرآن الكريم حروفاً من الهجاء مقطعة في أوائل بعض سوره لا سبيل لنا إلى فهم المراد بها‏.‏ وسمى هذه الأنواع كلها من الكتاب متشابهاً‏.‏ وذم على اتباعها فقال تعالى‏:‏ ‏"‏ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الالباب ‏"‏ وحمل العلماء من سلف الصحابة والتابعين هذه الآية على أن المحكمات هي المبينات الثابتة الأحكام‏.‏ ولذا قال الفقهاء في اصطلاحهم‏:‏ المحكم المتضح المعنى‏.‏ وأما المتشابهات فلهم فيها عبارات‏.‏ فقيل هي التي تفتقر إلى نظم وتفسير يصحح معناها لتعارضها مع آية أخرى أو مع العقل فتخفى دلالتها وتشتبه‏.‏ وعلى هذا قال ابن عباس‏:‏ ‏"‏ المتشابه يؤمن به ولا يعمل به ‏"‏ وقال مجاهد وعكرمة‏:‏ ‏"‏ كلما سوى آيات الأحكام والقصص متشابه ‏"‏ وعليه القاضي أبو بكر وإمام الحرمين‏.‏ وقال الثوري والشعبي وجماعة من علماء السلف‏:‏ ‏"‏ المتشابه ما لم يكن سبيل إلى علمه كشروط الساعة وأوقات الإنذارات وحروف الهجاء في أوائل السور وقوله في الآية‏:‏ ‏"‏ هذه أم الكتاب ‏"‏ أي معظمه وغالبه والمتشابه أقله وقد يرد إلى المحكم‏.‏ ثم ذم المتبعين للمتشابه بالتأويل أو بحملها على معان لا تفهم منها في لسان العرب الذي خوطبنا به‏.‏ وسماهم أهل زيغ أي ميل عن الحق من الكفار والزنادقة وجهلة أهل البدع‏.‏ وأن فعلهم ذلك قصد الفتنة التي هي الشرك أو اللبس على المؤمنين أو قصداً لتأويلها بما يشتهونه فيقتدون به في بدعتهم‏.‏ ثم أخبر سبحانه بأنه استأثر بتأويلها ولا يعلمه إلا هو فقال‏:‏ وما يعلم تأويله إلا الله‏.‏ ثم أثنى على العلماء بالإيمان بها فقط فقال‏:‏ والراسخون في العلم يقولون آمنا به‏.‏ ولهذا جعل السلف والراسخون مستأنفاً ورجحوه على العطف لأن الإيمان بالغيب أبلغ في الثناء ومع عطفه إنما يكون إيماناً بالشاهد لأنهم يعلمون التأوبل حينئذ فلا يكون غيباً‏.‏ ويعضد ذلك قوله‏:‏ ‏"‏ كل من عند ربنا ‏"‏ ويدل على أن التأويل فيها غير معلوم للبشر‏.‏ إن الألفاظ اللغوية إنما يفهم منها المعاني التي وضعها العرب لها فإذا استحال إسناد الخبر إلى مخبر عنه جهلنا مدلول الكلام حينئذ وإن جاءنا من عند الله فوضنا علمه إليه ولا نشغل أنفسنا بمدلول نلتمسه فلا سبيل لنا إلى ذلك‏.‏ وقد قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ ‏"‏ إذا رأيتم الذين يجادلون في القرآن فهم الذين عنى الله ‏"‏ فاحذروهم‏.‏ هذا مذهب السلف في الآيات المتشابهة‏.‏ وجاء في السنة ألفاط مثل ذلك حملها عندهم محمل الآيات لأن المنبع واحد‏.‏ وإذا تقررت أصناف المتشابهات على ما قلناه فلنرجع إلى اختلاف الناس فيها‏.‏ فأما ما يرجع منها على ما ذكروه إلى الساعة وأشراطها وأوقات الإنذارات وعدد الزبانية وامثال ذلك فليس هذا والله أعلم من المتشابه لأنه لم يرد فيه لفظ مجمل ولا غيره وإنما هي أزمنة لحادثات استأثر الله بعلمها بنصه في كتابه وعلى لسان نبيه‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏ إنما علمها عند الله ‏"‏ والعجب ممن عدها من المتشابه وأما الحروف المقطعة في أوائل السور فحقيقتها حروف الهجاء وليس ببعيد أن تكون مرادة‏.‏ وقد قال الزمخشري‏:‏ فيها إشارة إلى بعد الغاية في الإعجاز لأن القرآن المنزل مؤلف منها والبشر فيها سواء والتفاوت موجود في دلالتها بعد التأليف‏.‏ وإن عدل عن هذا الوجه الذي يتضمن الدلالة على الحقيقة فإنما يكون بنقل صحيح كقولهم في طه إنه نداء من طاهر وهادي وأمثال ذلك‏.‏ والنقل الصحيح متعذر فيجيء المتشابه فيها من هذا الوجه‏.‏ وأما الوحي والملائكة والروح والجن فاشتباهها من خفاء دلالتها الحقيقية لأنها غير متعارفة فجاء التشابه فيها من أجل ذلك‏.‏ وقد ألحق بعض الناس بها كل ما في معناها من أحوال القيامة والجنة والدخال والفتن والشروط وما هو بخلاف العوائد المألوفة وهو غير بعيد إلا أن الجمهور لا يوافقونهم عليه‏.‏ وسيما المتكلمون فقد عينوا محاملها على ما تراه في كتبهبم ولم يبق من المتشابه إلا الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه وعلى لسان نبيه مما يوهم ظاهره نقصاً اوتعجيزاً‏.‏ وقد اختلف الناس في هذه الظواهر من بعد السلف الذين قررنا مذهبهم‏.‏ وتنازعوا وتطرقت البدع إلى العقائد‏.‏ فلنشر إلى بيان مذاهبهم وإيثار الصحيح منه على الفاسد فنقول ‏"‏ وما توفيقي إلا بالله ‏"‏‏:‏ إعلم أن الله سبحانه وصف نفسه في كتابه بأنه عالم قادر مريد حي سميع بصير متكلم جليل كريم جواد منعم عزيز عظيم‏.‏ وكذا أثبت لنفسه اليدين والعينين والوجه والقم واللسان إلى غيرذلك من الصفات‏:‏ فمنها ما يقتضي صحة ألوهية مثل العلم والقدرة والإرادة ثم الحياة التي هي شرط جميعها ومنها ما هي صفة كمال كالسمع والبصر والكلام ومنها ما يوهم النقص كالاستواء والنزول والمجيء وكالوجه واليدين والعينين التي هي صفات المحدثات‏.‏ ثم أخبر الشارع أنا نرى ربنا يوم القيامة كالقمر ليلة البدر لا نضام في رؤيته كما ثبت في الصحيح‏.‏ فأما السلف من الصحابة والتابعين فأثبثوا له صفات الألوهية والكمال وفوضوا إليه ما يوهم النقص ساكتين عن مدلوله‏.‏ ثم اختلف الناس من بعدهم وجاء المعتزلة فأثبتوا هذه الصفات أحكاماً ذهنية مجردة ولم يثبتوا صفة تقوم بذاته وسموا ذلك توحيداً وجعلوا الإنسان خالقاً لأفعاله ولا تتعلق بها قدرة الله تعالى سيما الشرور والمعاصي منها إذ يمتنع على الحكيم فعلها‏.‏ وجعلوا مراعاة الأصلح للعباد واجبة عليه‏.‏ وسموا ذلك عدلاً بعد أن كانوا أولاً يقولون بنفي القدر وأن الأمر كله مستأنف بعلم حادث وقدرة وإرادة كذلك كما ورد في الصحيح‏.‏ وإن عبد الله بن عمر تبرأ من معبد الجهني وأصحابه القائلين بذلك‏.‏ وانتهى نفي القدر إلى واصل بن عطاء الغزالي منهم تلميذ الحسن البصري لعهد عبد الملك بن مروان‏.‏ ثم آخراً إلى معمر السلمي ورجعوا عن القول به‏.‏ وكان منهم أبو الهذيل العلاف وهو شيخ المعتزلة‏.‏ أخذ الطريقة عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل‏.‏ وكان من نفاة القدر واتبع رأي الفلاسفة في نفي الصفات الوجوددة لظهور مذاهبهم يومئذ‏.‏ ثم جاء إبراهيم النظام وقال بالقدر واتبعوه‏.‏ وطالع كتب الفلاسفة وشدد في نفي الصفات وقرر قواعد الاعتزال‏.‏ ثم جاء الجاحظ والكعبي والجبائي وكانت طريقتهم تسمى علم الكلام‏:‏ إما لما فيها من الحجاج والجدال وهو الذي يسمى كلاماً وإما أن أصل طريقتهم نفي صلة الكلام‏.‏ فلهذا كان الشافعي يقول‏:‏ حقهم أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم‏.‏ وقرر هؤلاء طريقتهم وأثبتوا منها وردوا إلى أن ظهر الشيخ أبو الحسن الأشعري وناظر بعض مشيختهم في مسائل الصلاح والأصلح فرفض طريقتهم وكان على رأي عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبي العباس القلانسي والحرث بن أسد المحاسبي من أتباع السلف وعلى طريقة السنة‏.‏ فأيد مقالاتهم بالحجج الكلامية وأثبت الصفات القائمة بذات الله تعالى من العلم والقدرة والإرادة التي يتم بها دليل التمانع وتصح المعجزات للأنبياء‏.‏ وكان من مذهبهم إثبات الكلام والسمع والبصر لأنها وإن أوهم ظاهراً النقص بالصوت والحرف الجسمانيين فقد وجد للكلام عند العرب مدلول آخر غير الحروف والصوت وهو ما يدور في الخلد‏.‏ والكلام حقيقة فيه دون الأول فأثبتوها لله تعالى وانتفى إيهام النقص‏.‏ وأثبتوا هذه الصفة قديمة عامة التعلق بشأن الصفات الأخرى‏.‏ وصار القرآن اسماً مشتركاً بين القديم بذات الله تعالى وهو الكلام النفسي والمحدث الذي هو الحروف المؤلفة المقروءة بالأصوات‏.‏ فإذا قيل قديم فالمراد الأول وإذا قيل مقروء مسموع فلدلالة القراءة والكتابة عليه‏.‏ وتوزع الإمام أحمد بن حنبل من إطلاق لفظ الحدوث عليه لأنه لم يسمع من السلف قبله‏:‏ لا إنه يقول إن المصاحف المكتوبة قديمة ولا أن القراءة الجارية على السنة قديمة وهو شاهدها محدثة‏.‏ وإنما منعه من ذلك الورع الذي كان عليه‏.‏ وأما غير ذلك فإنكار للضروريات وحاشاه منه‏.‏ وأما السمع والبصر وإن كان يوهم إدراك الجارحة فهو يدل أيضاً لغة على إدراك المسموع والمبصر وينتفي إيهام النقص حينئذ لأنه حقيقة لغوية فيهما‏.‏ وأما لفظ الاستواء والمجيء والنزول والوجه واليدين والعينين وأمثال ذلك فعدلوا عن حقائقها اللغوية فما فيها من إيهام النقص بالتشبيه إلى مجازاتها على طريقة العرب حيث تتعذر حقائق الألفاظ فيرجعون إلى المجاز‏.‏ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ يريد أن ينقض ‏"‏ وأمثاله طريقة معروفة لهم غير منكرة ولا مبتدعة‏.‏ وحملهم على هذا التأويل وإن كان مخالفاً لمذهب السلف في التفويض أن جماعة من أتباع السلف وهم المحدثون والمتأخرون من الحنابلة ارتكبوا في محمل هذه الصفات فحملوها على صفات ثابتة لله تعالى مجهولة الكيفية‏.‏ فيقولون في‏:‏ ‏"‏ استوى على العرش ‏"‏ تثبت له استواء بحيث مدلول اللفظة فراراً من تعطيله‏.‏ ولا نقول بكيفيته فراراً من القول بالتشبيه الذي تنفيه آيات السلوب من قوله‏:‏ ‏"‏ ليس كمثله شيء ‏"‏ ‏"‏ سبحان الله عما يصفون ‏"‏ ‏"‏ تعالى الله عما يقول الظالمون ‏"‏ ‏"‏ لم يلد ولم يولد ‏"‏ ولا يعلمون مع ذلك أنهم ولجوا من باب التشبيه في قولهم بإثبات استواء والاستواء عند أهل اللغة إنما موضوعه الاستقرار والتمكن وهو جسماني‏.‏ وأما التعديل الذي يشنعون بإلزامه وهو تعطيل اللفظ فلا محذور فيه‏.‏ وإنما المحذور في تعطيل الآلة‏.‏ وكذلك يشنعون بإلزام التكليف بما لا يطاق وهو تمويه‏.‏ لأن التشابه لم يقع في التكاليف‏.‏ ثم يدعون أن هذا مذهب السلف وحاشا لله من ذلك‏.‏ وإنما مذهب السلف ما قررناه أولاً من تفويض المراد بها إلى الله والسكوت عن فهمها‏.‏ وقد يحتجون لإثبات الاستواء لله بقول مالك‏:‏ ‏"‏ إن الاستواء معلوم الثبوت لله ‏"‏ وحاشاه من ذلك لأنه يعلم مدلول الاستواء‏.‏ وإنما أراد أن الاستواء معلوم من اللغة وهو الجسماني وكيفيته أي حقيقته‏.‏ لأن حقائق الصفات كلها كيفيات وهي مجهولة الثبوت لله‏.‏ وكذلك يحتجون على إثبات المكان بحديث السوداء وأنها لما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أين الله وقالت‏:‏ في السماء فقال‏:‏ أعتقها فإنها مؤمنة‏.‏ والنبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت لها الإيمان بإثباتها المكان لله بل لأنها آمنت بما جاء به من ظواهر أن الله في السماء فدخلت في جملة الراسخين الذين يؤمنون بالمتشابه من غير كشف عن معناه‏.‏ والقطع بنفي المكان حاصل من دليل العقل النافي للافتقار‏.‏ ومن أدلة السلوب المؤذنة بالتنزيه مثل ‏"‏ ليس كمثله شيء ‏"‏ وأشباهه‏.‏ ومن قوله‏:‏ ‏"‏ وهو الله في السماوات وفي الأرض ‏"‏ إذ الموجود لا يكون في مكانين فليست في هذا للمكان قطعاً والمراد غيره‏.‏ ثم طردوا ذلك المحمل الذي ابتدعوه في ظواهر الوجه والعينين واليدين والنزول والكلام بالحرف والصوت يجعلون لها مدلولات أعم من الجسمانية وينزهونه عن مدلول الجسماني منها‏.‏ وهذا شيء لا يعرف في اللغة‏.‏ وقد درج على ذلك الأول والآخر منهم‏.‏ ونافرهم أهل السنة من المتكلمين الأشعرية والحنفية‏.‏ ورفضوا عقائدهم في ذلك ووقع بين متكلمي الحنفية ببخارى وبين الإمام محمد بن إسماعيل البخاري ما هو معروف‏.‏ وأما المجسمة ففعلوا مثل ذلك في إثبات الجسمية وأنها لا كالأجسام‏.‏ ولفظ الجسم له يثبت في منقول الشرعيات‏.‏ وإنما جرأهم عليه إثبات هذه الظواهر فلم يقتصروا عليه بل توغلوا وأثبتوا الجسمية يزعمون فيها مثل ذلك وينزهونه بقول متناقض سفساف وهو قولهم‏:‏ جسم لا كالأجسام‏.‏ والجسم في لغة العرب هو العميق المحدود وغير هذا التفسير من أنه القائم بالذات أو المركب من الجواهر وغير ذلك فاصطلاحات للمتكلمين يريدون بها غير المدلول اللغوي‏.‏ فلهذا كان المجسمة أوغل في البدعة بل والكفر‏.‏ حيث أثبتوا لله وصفاً موهماً يوهم النقص لم يرد في كلامه ولا كلام نبيه‏.‏ فقد تبيين لك الفرق بين مذاهب السلف والمتكلمين السنية والمحدثين والمبتدعة من المعتزلة والمجسمة بما أطلعناك عليه‏.‏ وفي المحدثين غلاة يسمون المشبه لتصريحهم بالتشبيه حتى إنه يحكى عن بعضهم أنه قال‏:‏ اعفوني من اللحية والفرج وسلوا عما بدا لكم من سواهما‏.‏ وإن لم يتأول ذلك لهم بأنهم يريدون حصر ما ورد من هذه الظواهر الموهمة وحملها على ذلك المحمل الذي لأئمتهم وإلا فهو كفر صريح والعياذ بالله‏.‏ وكتب أهل السنة مشحونة بالحجاج على هذه البدع وبسط الرد عليهم بالأدلة الصحيحة‏.‏ وإنما أومأنا إلى ذلك إيماء يتميز به فصول المقالات وجملها‏.‏ والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله‏.‏ وأما الظواهر الخفية الأدلة والدلالة كالوحي والملائكة والروح والجن والبرزخ وأحوال القيامة والدجال والفتن والشروط وسائر ما هو متعذر على الفهم أو مخالف للعادات فإن حملناه على ما يذهب إليه الأشعرية في تفاصيله وهم أهل السنة فلا تشابه وإن قلنا فيه بالتشابه فلنوضح القول فيه بكشف الحجاب عنه فنقول‏:‏ اعلم أن العالم البشري أشرف العوالم من الموجودات وأرفعها‏.‏ وهو وإن اتحدت حقيقة الإنسانية فيه فله أطوار يخالف كل واحد منها الآخر بأحوال تختص به حتى كأن الحقائق فيها مختلفة‏.‏ فالطور الأول‏:‏ عالمه الجسماني بحسه الظاهر وفكره المعاشي وسائر تصرفاته التي أعطاه إياها وجوده الحاضر‏.‏ الطور الثاني‏:‏ عالم النوم وهو تصور الخيال بإنفاذ تصوراته جائلة في باطنه فيدرك منها بحواسه الظاهرة مجردة عن الأزمنة والأمكنة وسائر الأحوال الجسمانية ويشاهدها في إمكان ليس هو فيه‏.‏ ويحدث للصالح منها البشرى بما يترقب من مسراته الدنيوية والأخروية كما وعد به الصادق صلوات الله عليه‏.‏ وهذان الطوران عامان في جميع أشخاص البشر وهما مختلفان في المدارك كما تراه‏.‏ الطور الثالث‏:‏ طور النبوة وهو خاص بإشراف صنف البشر بما خصهم الله به من معرفته وتوحيده وتنزل ملائكته عليهم بوحيه وتكليفهم بإصلاح البشر في أحوال كلها مغايرة للأحوال البشرية الظاهرة‏.‏ الطور الرابع‏:‏ طور الموت الذي تفارق أشخاص البشر فيه حياتهم الظاهرة إلى وجود قبل القيامة يسمى البرزخ يتنعمون فيه ويعذبون على حسب أعمالهم ثم يفضون إلى يوم القيامة الكبرى وهي دار الجزاء الأكبر نعيماً وعذاباً في الجنة أو في النار‏.‏ والطوران الأولان شاهدهما وجداني والطور الثالث النبوي شاهده المعجزة والأحوال المختصة بالأنبياء والطور الرابع شاهده ما تنزل على الانبياء من وحي الله تعالى في المعاد وأحوال البرزخ والقيامة مع أن العقل يقتضي به كما نبهنا الله عليه في كثير من آيات البعثة‏.‏ ومن أوضح الدلالة على صحتها أن أشخاص الإنسان لو لم يكن لهم وجود آخر بعد الموت غير هذه المشاهد يتلقى فيه أحوالاً تليق به‏.‏ لكان إيجاده الأول عبثاً‏.‏ إذ الموت إذا كان عدماً كان مآل الشخص إلى العدم فلا يكون لوجوط الأول حكمة‏.‏ والعبث على الحكيم محال‏.‏ وإذا تقررت هذه الأحوال الأربعة فلنأخذ في بيان مدارك الإنسان فيها كيف تختلف اختلافاً بيناً يكشف لك غور المتشابه‏.‏ فأما مداركه في الطور الأول فواضحة جلية‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ‏"‏ فبهذه المدارك يستولي على ملكات المعارف ويستكمل حقيقة إنسانية ويوفي حق العبادة المفضية به إلى النجاة‏.‏ وأما مداركه في الطور الثاني وهو طور النوم فهي المدارك التي في الحس الظاهر بعينها‏.‏ لكن ليست في الجوارح كما هي في اليقظة‏.‏ لكن الرأي يتيقن كل شيء أدركه في نومه لا يشك فيه ولا يرتاب مع خلو الجوارح عن الاستعمال العادي لها‏.‏ والناس في حقيقة هذه الحال فريقان‏:‏ الحكماء ويزعمون أن الصور الخيالية يدفعها الخيال بحركة الفكر إلى الحس المشترك الذي هو الفصل المشترك بين الحس الظاهر والحس الباطن فتصور محسوسه بالظاهر في الحواس كلها‏.‏ ويشكل عليهم هذا بأن المرائي الصادقة التي هي من الله تعالى أو من الملك أثبت وأرسخ في الإدراك من المرائي الخيالية الشيطانية مع أن الخيال فيها على ما قرروه واحد‏.‏ الفريق الثاني‏:‏ المتكلمون أجملوا فيها القول وقالوا‏:‏ هو إدراك يخلقه الله في الحاسة فيقع كما يقع في اليقظة وهذا أليق وإن كنا لا نتصور كيفيته‏.‏ وهذا الإدراك النومي أوضح شاهد على ما يقع بعده من المدارك الحسية في الأطوار‏.‏ وأما الطور الثالث وهو طور الأنبياء فالمدارك الحسية فيها مجهولة الكيفية عند وجدانيته عندهم بأوضح من اليقين‏.‏ فيرى النبي الله والملائكة ويسمع كلام الله منه أو من الملائكة ويرى الجنة والنار والعرش والكرسي ويخترق السماوات السبع في إسرائه ويركب البراق فيها ويلقى النبيين هنالك ويصلي بهم ويدرك أنواع المدارك الحسية كما يدرك في طوره الجسماني والنومي بعلم ضروري يخلقه الله له لا بالإدراك العادي للبشر في الجوارح ولا يلتفت في ذلك إلى ما يقوله ابن سينا من تنزيله أمر النبوة على أمر النوم في دفع الخيال صوره إلى الحس المشترك‏.‏ فإن الكلام عليهم هنا أشد من الكلام في النوم لأن هذا التنزيل طبيعة واحدة كما قررناه فيكون على هذا حقيقة الوحي والرؤيا من النبي واحدة في يقينها وحقيقتها وليست كذلك على ما علمت من رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم قبل الوحي ستة أشهر وأنها كانت بمئة الوحي ومقدمته ويشعر ذلك بأنه رؤية في الحقيقة‏.‏ وكذلك حال الوحي في نفسه فقد كان يصعب عليه ويقاسي منه شدة كما هي في الصحيح حتى كان القرآن يتنزل عليه آيات مقطعات‏.‏ وبعد ذلك نزل عليه ‏"‏ براءة ‏"‏ في غزوة تبوك جملة واحدة وهو يسير على ناقته‏.‏ فلو كان ذلك من تنزل الفكر إلى الخيال فقط ومن الخيال إلى الحس المشترك لم يكن بين هذه الحالات فرق‏.‏ وأما الطور الرابع وهو طور الأموات في برزخهم الذي أوله القبر وهم مجردون عن البدن أو في بعثتهم عندما يرجعون إلى الأجسام فمداركهم الحسية موجودة فيرى الميت في قبره الملكان يسائلانه ويرى مقعده من الجنة أو النار بعيني رأسه ويرى شهود الجنازة ويسمع كلامهم وخفق نعالهم في الانصراف عنه ويسمع ما يذكرونه به من التوحيد أو من تقرير الشهادتين وغير ذلك‏.‏ وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر وفيه قتلى المشركين من قريش وناداهم بأسمائهم فقال عمر‏:‏ يا رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أتكلم هؤلاء الجيف فقال‏:‏ ‏"‏ والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع منهم لما أقول ‏"‏‏.‏ ثم في البعثة يوم القيامة يعاينون بأسمائهم وأبصارهم - كما كانوا يعاينون في الحياة من نعيم الجنة على مراتبه وعذاب النار على مراتبه ويرون الملائكة ويرون ربهم كما ورد في الصحيح‏:‏ إنكم ترون ربكم يوم القيامة كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته‏.‏ وهذه المدارك لم تكن لهم في الحياة الدنيا وهي حسية مثلها وتقع في الجوارح بالعلم الضروري الذي يخلقه الله كما قلنا وسر هذا أن تعلم أن النفس الإنسانية هي تنشأ بالبدن وبمداركه فإذا فارقت البدن بنوم أو بموت أو صار النبي حالة الوحي من المدارك البشرية إلى المدارك الملكية فقد استصحبت ما كان معها من المدارك البشرية مجردة عن الجوارح فيدرك بها في ذلك الطور أي إدراك شاءت منها أرفع من إدراكها وهي في الجسد‏.‏ قاله الغزالي رحمه الله وزاد على ذلك أن النفس الإنسانية صورة تبقى لها بعد المفارقة فيها العينان والأذنان وسائر الجوارح المدركة أمثالاً لها كان في البدن وصوراً‏.‏ وأنا أقول‏:‏ إنما يشير بذلك إلى الملكات الحاصلة من تصريف هذه الجوارح في بدنها زيادة على الإدراك‏.‏ فإذا تفطنت لها كله علمت أن هذه المدارك موجودة في الأطوار الأربعة لكن ليس على ما كانت في الحياة الدنيا وإنما هي تختلف بالقوة والضعف بحسب ما يعرض لها من الأحوال‏.‏ ويشير المتكلمون إلى ذلك إشارة مجملة بأن الله يخلق فيها علماً ضرورياً بتلك المدارك أي مدرك كان ويعنون به هذا القدر الذي أوضحناه‏.‏ وهذه نبذة أومأنا بها إلى ما يوضح القول في المتشابه‏.‏ ولو أوسعنا الكلام فيه لقصرت المدارك عنه‏.‏ فلنفزع إلى الله سبحانه في الهداية والفهم عن أنبيائه وكتابه بما يحصل به الحق في توحيدنا والظفر بنجاتنا والله يهدي من يشاء‏.‏ في علم التصوف هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة‏.‏ وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية و أصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة وكان ذلك عاماً في الصحابة والسلف‏.‏ فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة‏.‏ وقال القشيري رحمه الله‏:‏ ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربية ولا قياس‏.‏ والظاهر أنه لقب‏.‏ ومن قال‏:‏ اشتقاقه من الصفاء أو من الصفة فبعيد من جهة القياس اللغوي قال‏:‏ وكذلك من الصوف لأنهم لم يختصوا بلبسه‏.‏ قلت‏:‏ والأظهر أن قيل بالاشتقاق أنه من الصوف وهم في الغالب مختصون بلبسه لما كانوا عليه من مخالفة الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف‏.‏ فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد والانفراد عن الخلق والإقبال على العبادة اختصوا بمآخذ مدركة لهم وذلك أن الإنسان بما هو إنسان إنما يتميز عن سائر الحيوان بالإدراك وإدراكه نوعان‏:‏ إدراك للعلوم والمعارف من اليقين والرضا والغضب والصبر والشكر وأمثال ذلك‏.‏ فالروح العاقل والمتصرف في البدن تنشأ من إدراكات وإرادات وأحوال وهي التي يتميز بها الإنسان‏.‏ وبعضها ينشأ من بعض كما ينشأ العلم عن الأدلة والفرح والحزن عن إدراك المؤلم أو المتلذذ به والنشاط عن الحمام والكسل عن الإعياء‏.‏ وكذلك المريد في مجاهدته وعبادته لا بد وأن ينشأ له عن كل مجاهدة حال نتيجة تلك المجاهدة‏.‏ وتلك الحالة إما أن تكون نوع عبادة فترسخ وتصير مقاماً للمريد وإما أن لا تكون عبادة وإنما تكون صفة حاصلة للنفس‏.‏ من حزن أو سرور أو نشاط أو كسل أو غير ذلك من المقامات‏.‏ ولا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى التوحيد والمعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة ‏"‏‏.‏ فالمريد لا بد له من الترقي في هذه الأطوار وأصلها كلها الطاعة والإخلاص ويتقدمها الإيمان ويصاحبها وتنشأ عنها الأحوال والصفات نتائج وثمرات‏.‏ ثم تنشأ عنها أخرى وأخرى إلى مقام التوحيد والعرفان‏.‏ وإذا وقع تقصير في النتيجة أو خلل فنعلم أنه إنما أتى من قبل التقصير في الذي قبله‏.‏ وكذلك في الخواطر النفسانية والواردات القلبية‏.‏ فلذا يحتاج المريد إلى محاسبة نفسه في سائر أعماله وينظر في حقائقها لأن حصول النتائج عن الأعمال ضروري وقصورها من الخلل فيها كذلك‏.‏ والمريد يجد ذلك بذوقه ويحاسب نفسه على أسبابه‏.‏ ولا يشاركهم في ذلك إلا القليل من الناس لأن الغفلة عن هذا كأنها شاملة‏.‏ وغاية أهل العبادات إذا لم ينتهوا إلى هذا النوع أنهم يأتون بالطاعات مخلصة من نظر الفقه في الأجزاء والامتثال‏.‏ وهؤلاء يبحثون عن نتائجها بالأذواق والمواجد ليطلعوا على أنها خالصة من التقصير أولاً فظهر أن أصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال والتروك والكلام في هذه الأذواق والمواجد التي تحصل عن المجاهدات ثم تستقر للمريد مقاماً ويترقى منها إلى غيرها‏.‏ ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم واصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم إذ الأوضاع اللغوية إنما هي للمعاني المتعارفة‏.‏ فإذا عرض من المعاني ما هو غير متعارف اصطلحنا عن التعبير عنه بلفظ يتيسر فهمه منه‏.‏ فلهذا اختص هؤلاء بهذا النوع من العلم الذي ليس لواحد غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه‏.‏ وصار علم الشريعة على صنفين‏:‏ صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا وهي الأحكام العامة في العبادات والعادات والمعاملات وصنف مخصوص بالقوم في القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس عليها والكلام في الأذواق والمواجد العارضة في طريقها وكيفية الترقي منها من فوق إلى فوق وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك‏.‏ فلما كتبت العلوم ودونت وألف الفقهاء في الفقه وأصوله والكلام والتفسير وغير ذلك كتب رجال من أهل هذه الطريقة في طريقتهم‏.‏ فمنهم من كتب في الورع ومحاسبة النفس على الاقتداء في الأخذ والترك كما فعله المحاسبي في كتاب الرعاية له ومنهم من كتب في آداب الطريقة وأذواق أهلها ومواجدهم في الأحوال كما فعله القشيري في كتاب الرسالة والسهروردي في كتاب عوارف المعارف وأمثالهم‏.‏ وجمع الغزالي رحمه الله بين الأمرين في كتاب الإحياء فدون فيه أحكام الورع والاقتداء ثم بين آداب القوم وسننهم وشرح اصطلاحاتهم في عباراتهم‏.‏ وصار علم التصوف في الملة علما مدوناً بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط وكانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال كما وقع في سائر العلوم التي دونت بالكتاب من التفسير والحديث والفقه والأصول وغير ذلك‏.‏ ثم إن هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها غالباً كشف حجاب الحس والاطلاع على عوالم من أمر الله ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها والروح من تلك العوالم‏.‏ وسبب هذا الكشف أن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس وقويت أحوال الروح وغلب سلطانه وتجدد نشؤه وأعان على ذلك الذكر فإنه كالغذاء لتنمية الروح ولا يزال في نمو وتزيد إلى أن يصير شهوداً بعد أن كان علماً‏.‏ ويكشف حجاب الحس ويتم وجود النفس الذي لها من ذاتها وهو عين الإدراك‏.‏ فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية والعلوم المدنية والفتح الإلهي وتقرب ذاته في تحقيق حقيقتها من الأفق الأعلى أفق الملائكة‏.‏ وهذا الكشف كثيراً ما يعرض لأهل المجاهدة فيدركون من حقائق الوجود ما لا يدرك سواهم‏.‏ وكذلك يدركون كثيراً من الواقعات قبل وقوعها ويتصرفون بهممهم وقوى نفوسهم في الموجودات السفلية وتصير طوع إرادتهم‏.‏ فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف ولا يتصرفون ولا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتكلم فيه بل يعدون ما يقع لهم من ذلك محنة ويتعوذون منه إذا هاجمهم‏.‏ وقد كان الصحابة رضي الله عنهم على مثل هذه المجاهدة وكان حظهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ لكنهم لم يقع لهم بها عناية‏.‏ وفي فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم كثير منها‏.‏ وتبعهم في ذلك أهل الطريقة ممن اشتملت رسالة القشيري على ذكرهم ومن تبع طريقتهم من بعدهم‏.‏ ثم إن قوماً من المتأخرين انصرفت عنايتهم إلى كشف الحجاب والكلام في المدارك التي وراءه واختلفت طرق الرياضة عنهم في ذلك باختلاف تعليمهم في إماتة القوى الحسية وتغذية الروح العاقل بالذكر حتى يحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذاتها بتمام نشوتها وتغذيتها‏.‏ فإذا حصل ذلك زعموا أن الوجود قد انحصر في مداركها حينئذ وأنهم كشفوا ذوات الوجود وتصوروا حقائقها كلها من العرش إلى الطش‏.‏ هكذا قال الغزالي رحمه الله في كتاب الإحياء ثم إن هذا الكشف لا يكون صحيحاً كاملاً عندهم إلا إذا كان ناشئاً عن الاستقامة لأن الكشف قد يحصل لصاحب الجوع والخلوة وإن لم يكن هناك استقامة كالسحرة وغيرهم من المرتاضين‏.‏ وليس مرادنا إلا الكشف الناشىء عن الاستقامة‏.‏ ومثاله أن المرآة الصقيلة إذا كانت محدبة أو مقعرة وحوذي بها جهة المرئي فإنه يتشكل فيه معوجاً على غير صورته‏.‏ وإن كانت مسطحة تشكل فيها المرئي صحيحاً‏.‏ فالاستقامة للنفس كالانبساط للمرآة فيما ينطبع فيها من الأحوال‏.‏ ولما عني المتأخرون بهذا النوع من الكشف تكلموا في حقائق الموجودات العلوية والسفلية وحقائق الملك والروح والعرش والكرسي وأمثال ذلك وقصرت مدارك من لم يشاركهم في طريقهم عن فهم أذواقهم ومواجدهم في ذلك‏.‏ وأهل الفتيا بين منكرعليهم ومسلم لهم‏.‏ وليس البرهان والدليل بنافع في هذه الطريق رداً وقبولاً إذ هي من قبيل الوجدانيات‏.‏ تفصيل وتحقيق‏:‏ يقع كثيراً في كلام أهل العقائد من علماء الحديث والفقه أن الله تعالى مباين لمخلوقاته‏.‏ ويقع للمتكلمين أنه لا مباين ولا متصل‏.‏ ويقع للفلاسفة أنه لا داخل العالم ولا خارجه‏.‏ ويقع للمتأخرين من المتصوفة أنه متحد بالمخلوقات‏:‏ إما بمعنى الحلول فيها أو بمعنى انه هو عينها وليس هناك غيره جملة ولا تفصيلاً‏.‏ فلنبين تفصيل هذه المذاهب ونشرح حقيقة كل واحد منها حتى تتضح معانيها فنقول إن المباينة تقال لمعنيين‏:‏ أحدهما المباينة في الحيز والجهة ويقابله الاتصال‏.‏ وتشعر هذه المقابلة على هذه التقيد بالمكان‏:‏ إما صريحاً وهو تجسيم أو لزوماً وهو تشبيه من قبيل القول بالجهة‏.‏ وقد نقل مثله عن بعض علماء السلف من التصريح بهذه المباينة فيحتمل غير هذا المعنى‏.‏ من أجل ذلك أنكر المتكلمون هذه المباينة وقالوا‏:‏ لا يقال في البارىء أنه مباين مخلوقاته ولا متصل بها لأن ذلك إنما يكون للمتحيزات‏.‏ وما يقال من أن المحل لا يخلو عن الاتصاف بالمعنى وضده فهو مشروط بصحة الاتصاف أولاً وأما مع امتناعه فلا بل يجوز الخلو عن المعنى وضده كما يقال في الجماد لا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز ولا كاتب ولا أمي‏.‏ وصحة الاتصاف بهذه المباينة مشروط بالحصول في الجهة على ما تقرر من مدلولها‏.‏ والبارىء سبحانه منزة عن ذلك‏.‏ ذكره ابن التلمساني في شرح اللمع لإمام الحرمين وقال‏:‏ ‏"‏ ولا يقال في البارىء مباين للعالم ولا متصل به ولا داخل فيه ولا خارج عنه‏.‏ وهو معنى ما يقوله الفلاسفة أنه لا داخل العالم ولا خارجه بناء على وجود الجواهر غير المتحيزة‏.‏ وأنكرها المتكلمون لما يلزم من مساواتها للبارىء في أخص الصفات وهو مبسوط في علم الكلام‏.‏ وأما المعنى الآخر للمباينة فهو المغايرة والمخالفة فيقال‏:‏ البارىء مباين لمخلوقاته في ذاته وهويته ووجوده وصفاته‏.‏ ويقابله الاتحاد والامتزاج والاختلاط‏.‏ وهذه المباينة هي مذهب أهل الحق كلهم من جمهور السلف وعلماء الشرائع والمتكلمين والمتصوفة الأقدمين كأهل الرسالة ومن نحا منحاهم‏.‏ وذهب جماعة من المتصوفة المتأخرين الذين صيروا المدارك الوجدانية علمية نظرية إلى أن البارىء تعالى متحد بمخلوقاته في هويته ووجوده وصفاته‏.‏ وربما زعموا أنه مذهب الفلاسفة قبل أرسطو مثل أفلاطون وسقراط وهو الذي يعينه المتكلمون حيث ينقلونه في علم الكلام عن المتصرفة ويحاولون الرد عليه لأنه ذاتان تنتفي إحداهما أو تندرج اندراج الجزء فإن تلك مغايرة صريحة ولا يقولون بذلك‏.‏ وهذا الاتحاد هو الحلول الذي تدعيه النصارى في المسيح عليه السلام وهو أغرب لأنه حلول قديم في محدث أو اتحاده به‏.‏ وهو أيضاً عين ما تقوله الإمامية من الشيعة في الأمامية‏.‏ وتقرير هذا الاتحاد في كلامهم على طريقين‏:‏ الأولى‏:‏ أن ذات القديم كائنة في المحدثات محسوسها ومعقولها متحدة بها في المتصورين وهي كلها مظاهر له وهو القائم عليها أي المقوم لوجودها بمعنى لولاه كانت عدماً وهو رأي أهل الحلول‏.‏ الثانية‏:‏ طريق أهل الوحدة المطلقة وكأنهم استشعروا من تقرير أهل الحلول الغيرية المنافية لمعقول الاتحاد فنفوها بين القديم وبين المخلوقات في الذات والوجود والصفات‏.‏ وغالطوا في غيرية المظاهر المدركة بالحس والعقل بأن ذلك من المدارك البشرية وهي أوهام‏.‏ ولا يريدون الوهم الذي هو قسيم العلم والظن والشك وإنما يريدون أنها كلها عدم في الحقيقة وجود في المدرك البشري فقط‏.‏ ولا وجود بالحقيقة إلا للقديم لا في الظاهر ولا في الباطن كما نقرره بعد بحسب الإمكان‏.‏ والتعويل في تعقل ذلك على النظر والاستدلال كما في المدارك البشرية غير مفيد لأن ذلك إنما ينقل من المدارك الملكية وإنما هي حاصلة للأنبياء بالفطرة ومن بعدهم للأولياء بهدايتهم‏.‏ وقصد من يصد الحصول عليها بالطريقة العلمية ضلال‏.‏ وربما قصد بعض المصنفين ذلك في كشف الموجودات وترتيب حقائقه على طريق أهل المظاهر فأتى بالأغمض فالأغمض‏.‏ وربما قصد بعض المصنفين بيان مذهبهم في كشف الوجود وترتيب حقائقه فأتى بالأغمض فالأغمض بالنسبة إلى أهل النظر والاصطلاحات والعلوم‏.‏ كما فعل الفرغاني شارح قصيدة ابن الفارض في الديباجة التي كتبها في صدر ذلك الشرح فإنه ذكر في صدور الوجود عن الفاعل وترتيبه أن الوجود كله صادر عن صفة الوحدانية التي هي مظهر الأحدية وهما معاً صادران عن الذات الكريمة التي هي عين الوحدة لا غير‏.‏ ويسمون هذا الصدور بالتجلي‏.‏ وأول مراتب التجليات عندهم تجلي الذات على نفسه وهو يتضمن الكمال بإفاضة الإيجاد والظهور لقوله في الحديث الذي يتناقلونه‏:‏ ‏"‏ كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ليعرفوني ‏"‏‏.‏ وهذا الكمال في الإيجاد المتنزل في الوجود وتفصيل الحقائق وهو عندهم عالم المعاني والحضرة الكمالية والحقيقة المحمدية وفيها حقائق الصفات واللوح والقلم وحقائق الأنبياء والرسل أجمعين والكمل من أهل الملة المحمدية‏.‏ وهذا كله تفصيل الحقيقة المحمدية‏.‏ ويصدر عن هذه الحقائق حقائق أخرى في الحضرة الهبائية وهي مرتبة المثال ثم عنها العرش ثم الكرسي ثم الأفلاك ثم عالم العناصر ثم عالم التركيب‏.‏ هذا في عالم الرتق فإذا تجلت فهي في عالم الفتق‏.‏ انتهى‏.‏ ويسمى هذا المذهب مذهب أهل التجلي والمظاهر والحضرات وهوكلام لا يقدر أهل النظر على تحصيل مقتضاه لغموضه وانغلاقه وبعد ما بين كلام صاحب المشاهدة والوجدان وصاحب الدليل‏.‏ وربما أنكر بظاهر الشرع هذا الترتيب فإنه لا يعرف في شيء من مناحيه‏.‏ وكذلك ذهب آخرون منهم إلى القول بالوحدة المطلقة وهو رأي أغرب من الأول في تعقله وتفاريعه يزعمون فيه أن الوجود له قوى في تفاصيله بها كانت حقائق الموجودات وصورها وموادها‏.‏ والعناصر إنما كانت بما فيها من القوى وكذلك مادتها لها في نفسها قوة بها كان وجودها‏.‏ ثم إن المركبات فيها تلك القوى متضمنة في القوة التي كان بها التركيب‏.‏ كالقوة المعدنية فيها قوى العناصر بهيولاها وزيادة القوة المعدنية ثم القوة الحيوانية تتضمن القوة المعدنية وزيادة قوتها في نفسها وكذا القوة الإنسانية مع الحيوانية ثم الفلك يتضمن القوة الإنسانية وزيادة‏.‏ وكذا الذوات الروحانية والقوة الجامعة للكل من غير تفصيل هي القوة الإلهية التي انبثت في جميع الموجودات كلية وجزئية وجمعتها وأحاطت بها من كل وجه لا من جهة الظهور ولا من جهة الخفاء ولا من جهة الصورة ولا من جهة المادة فالكل واحد وهو نفس الذات الإلهية وهي في الحقيقة واحدة بسيطة والاعتبار هو المفضل لها كالإنسانية مع الحيوانية‏.‏ ألا ترى أنها مندرجة فيها وكائنة بكونها‏.‏ فتارة يمثلونها بالجنس مع النوع في كل موجود كما ذكرناه وتارة بالكل مع الجزء على طريقة المثال‏.‏ وهم في هذا كله يفرون من التركيب والكثرة بوجه من الوجوه وإنما أوجبها عندهم الوهم والخيال‏.‏ والذي يظهر من كلام ابن دهقان في تقرير هذا المذهب أن حقيقة ما يقولونه في الوحدة شبيه بما يقوله الحكماء في الألوان من أن وجودها مشروط بالضوء فإذا عدم الضوء لم تكن الألوان موجودة بوجه‏.‏ وكذا عندهم الموجودات المحسوسة كلها مشروطة بوجود المدرك الحسي بل والموجودات المعقولة والمتوهمة أيضاً مشروطة بوجود المدرك العقلي فإذا الوجود المفصل كله مشروط بوجود المدرك البشري‏.‏ فلو فرضنا عدم المدرك البشري جملة لم يكن هناك تفصيل في الوجود بل هو بسيط واحد‏.‏ فالحر والبرد والصلابة واللين بل والأرض والماء والنار والسماء والكواكب إنما وجدت لوجود الحواس المدركة لها لما جعل في المدرك من التفصيل الذي ليس في الموجود وإنما هو في المدارك فقط‏.‏ فإذا فقدت المدارك المفصلة فلا تفصيل إنما هو إدراك واحد وهو أنا لا غيره‏.‏ ويعتبرون ذلك بحال النائم فإنه إذا نام وفقد الحس الظاهر فقد كل محسوس وهو في تلك الحالة إلا ما يفصله له الخيال‏.‏ قالوا‏:‏ فكذلك اليقظان إنما يعتبر تلك المدركات كلها على التفصيل بنوع مدركه البشري ولو قدر فقد مدركه فقد التفصيل وهذا هو معنى قولهم‏:‏ الوهم لا الوهم الذي هو من جملة المدارك البشرية‏.‏ هذا ملخص رأيهم على ما يفهم من كلام ابن دهقان وهو في غاية السقوط لأنا نقطع بوجود البلد الذي نحن مسافرون إليه يقيناً مع غيبته عن أعيينا وبوجود السماء المظلة والكواكب وسائر الأشياء الغائبة عنا‏.‏ والإنسان قاطع بذلك ولا يكابر أحد نفسه في اليقين مع أن المحققين من المتصوفة المتأخرين يقولون‏:‏ إن المريد عند الكشف ربما يعرض له توهم هذه الوحدة ويسمى ذلك عندهم مقام الجمع ثم يترقى عنه إلى التمييز بين الموجودات ويعبرون عن ذلك بمقام الفرق وهو مقام العارف المحقق‏.‏ ولا بد للمريد عندهم من عقبة الجمع وهي عقبة صعبة لأنه يخشى على المريد من وقوفه عندها فتخسر صفقته‏.‏ فقد تبينت مراتب أهل هذه الطريقة‏.‏ ثم إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة كما أشرنا إليه وملأوا الصحف منه مثل الهروي في كتاب المقامات له وغيره‏.‏ وتبعهم ابن العربي وابن سبعين وتلميذهما ثم ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم‏.‏ وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضاً بالحلول وإلهية الأئمة مذهباً لم يعرف لأولهم فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر‏.‏ واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم‏.‏ وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب ومعناه رأس العارفين‏.‏ يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله‏.‏ ثم يورث مقامه الآخر من أهل العرفان‏.‏ وقد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب الإشارات في فصول التصوف منها فقال‏:‏ ‏"‏ جل جناب الحق أن يكون شرعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد ‏"‏‏.‏ وهذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ولا دليل شرعي وإنما هو من أنواع الخطابة وهو بعينه ما تقوله الرافضة في توارث الأئمة عندهم‏.‏ فانظر كيف سرقت طباع هؤلاء القوم هذا الرأي من الرافضة ودانوا به‏.‏ ثم قالوا بترتيب وجود الأبدال بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في النقباء‏.‏ حتى إنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف ليجعلوه أصلاً لطريقتهم ونحلتهم رفعوه إلى علي رضي الله عنه وهو من هذا المعنى أيضاً‏.‏ وإلا فعلي رضي الله عنه لم يختص من بين الصحابة بنحلة ولا طريقة في لباس ولا حال‏.‏ بل كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم عبادة‏.‏ ولم يختص أحد منهم في الدين بشيء يؤثر عنه على الخصوص بل كان الصحابة كلهم أسوة في الدين والزهد والمجاهدة‏.‏ تشهد بذلك سيرهم وأخبارهم‏.‏ نعم إن الشيعة يخيلون بما ينقلون من ذلك اختصاص علي بالفضائل دون من سواه من الصحابة ذهاباً مع عقائد التشيع المعروفة لهم‏.‏ والذي يظهر أن المتصوفة بالعراق لما ظهرت الإسماعيلية من الشيعة وظهر كلامهم في الإمامة وما يرجع إليها ما هو معروف فاقتبسوا من ذلك الموازنة بين الظاهر والباطن وجعلوا الإمامة لسياسة الخلق في الانقياد إلى الشرع وأفردوه بذلك أن لا يقع اختلاف كما تقرر في الشرع‏.‏ ثم جعلوا القطب لتعليم المعرفة بالله لأنه رأس العارفين وأفردوه بذلك تشبيهاً بالإمام في الظاهر وأن يكون على وزانه في الباطن وسموه قطباً لمدار المعرفة عليه وجعلوا الأبدال كالنقباء مبالغة في التشبيه‏.‏ فتأمل ذلك‏.‏ يشهد بذلك كلام هؤلاء المتصوفة في أمر الفاطمي وما شحنوا به كتبهم في ذلك مما ليس لسلف المتصوفة فيه كلام بنفي أو إثبات وإنما هو مأخوذ من كلام الشيعة والرافضة ومذاهبهم في كتبهم‏.‏ والله يهدي إلى الحق‏.‏ تذييل‏:‏ وقد رأيت أن أجلب هنا فصلاً من كلام شيخنا العارف كبير الأولياء بالأندلس أبي مهدي عيسى بن الزيات كان يقع له أكثر الأوقات على أبيات الهروي التي وقعت له في كتاب المقامات توهم القول بالوحدة المطلقة أو يكاد يصرح بها وهي قوله‏:‏ ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد توحيد من ينطق عن نعته تثنية أبطلها الواحد توحيدة إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد فيقول رحمه الله على سبيل العذر عنه‏:‏ استشكل الناس إطلاق لفظ الجحود على كل من وحد الواحد ولفظ الإلحاد على من نعته ووصفه‏.‏ واستبشعوا هذه الأبيات وحملوا قائلها على الكفر واستخفوه‏.‏ ونحن نقول على رأي هذه الطائفة أن معنى التوحيد عندهم انتفاء عين الحدوث بثبوت عين القدم وأن الوجود كله حقيقة واحدة وآنية واحدة‏.‏ وقد قال أبو سعيد الجزار من كبار القوم‏:‏ الحق عين ما ظهر وعين ما بطن‏.‏ ويرون أن وقوع التعدد في تلك الحقيقة وجود الاثنينية‏.‏ وهم باعتبار حضرات الحس بمنزلة صور الضلال والصدا والمرأى‏.‏ وأن كل ما سوى عين القدم إذا استتبع فهو عدم‏.‏ وهذا معنى‏:‏ كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما هو عليه كان عندهم‏.‏ ومعنى قول لبيد الذي صدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏"‏ ألا كل شيء ما خلا الله باطل ‏"‏‏.‏ قالوا فمن وحد ونعت فقد قال بموجد محدث هو نفسه وتوحيد محدث هو فعله موجد قديم هو معبود‏.‏ وقد تقدم معنى التوحيد انتفاء عين الحدوث وعين الحدوث الآن ثابتة بل متعددة والتوحيد مجحود والدعوى كاذبة‏.‏ كمن يقول لغيره وهما معاً في بيت واحد‏:‏ ليس في البيت غيرك‏!‏ فيقول الآخر بلسان حاله‏:‏ ‏"‏ لا يصح هذا إلا لوعدمت أنت ‏"‏‏!‏‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ وقد قال بعض المحققين في قولهم‏:‏ خلق الله الزمان هذه ألفاظ تناقض أصولها لأن خلق الزمان متقدم على الزمان وهو فعل لا بد من وقوعه في الزمان وإنما حمل ذلك ضيق العبارة عن الحقائق وعجز اللغات عن تأدية الحق فيها وبها‏.‏ فإذ تحقق أن الموحد هو الموحد وعدم ما سواه جملة صح التوحيد حقيقة‏.‏ وهذا معنى قولهم‏:‏ ‏"‏ لا يعرف الله إلا الله ‏"‏‏.‏ ولا حرج على من وحد الحق مع بقاء الرسوم والآثار وإنما هو من باب‏:‏ ‏"‏ حسنات الأبرار سيئات المقربين ‏"‏‏.‏ لأن ذلك لازم التقييد والعبودية والشفعية‏.‏ ومن ترقى إلى مقام الجمع كان في حقه نقصاً مع علمه بمرتبته وأنه تلبيس تستلزمه العبودية ويرفعه الشهود ويطهر من دنس حدوثه عين الجمع‏.‏ وأعرق الأصناف في هذا الزعم القائلون بالوحدة المطلقة‏.‏ ومدار المعرفة بكل اعتبار على الانتهاء إلى الواحدة وإنما صدر هذا القول من الناظم على سبيل التحريض والتنبيه والتفطين لمقام أعلى ترتفع فيه الشفعية ويحصل التوحيد المطلق عيناً لا خطاباً‏.‏ وعبارة فمن سلم استراح ومن نازعته حقيقة أنس بقوله‏:‏ كنت سمعه وبصره‏.‏ وإذا عرفت المعاني لا مشاحة في الألفاظ‏.‏ والذي يفيده هذا كله تحقق أمر فوق هذا الطور لا نطق فيه ولا خبر عنه‏.‏ وهذا المقدار من الإشارة كاف‏.‏ والتعلق في مثل هذا حجاب وهو الذي أوقع في المقالات المعروفة ‏"‏‏.‏ انتهى كلام الشيخ أبي مهدي الزيات ونقلته من كتاب الوزير ابن الخطيب الذي ألفه في المحبة وسماه التعريف بالحب الشريف‏.‏ وقد سمعته من شيخنا أبي مهدي مراراً إلا أني رأيت رسوم الكتاب‏.‏ أوعى له لطول عهدي به‏.‏ والله الموفق‏.‏ ثم إن كثيراً من الفقهاء وأهل الفتيا انتدبوا للرد على هؤلاء المتأخرين في هذه المقالات وأمثالها وشملوا بالنكير سائر ما وقع لهم في الطريقة‏.‏ والحق أن كلامهم معهم فيه تفصيل فإن كلامهم في أربعة مواضع‏:‏ أحدها الكلام على المجاهدات وما يحصل من الأذواق والمواجد ومحاسبة النفس على الأعمال لتحصل تلك الأذواق التي تصير مقاماً ويترقى منه إلى غيره كما قلناه وثانيها الكلام في الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب مثل الصفات الربانية والعرش والكرسي والملائكة والوحي والنبوة والروح وحقائق كل موجود غائب أو شاهد وتركيب الأكوان في صدورها عن موجدها ومكونها كمامر وثالثها التصرفات في العوالم والأكوان بأنواع الكرامات ورابعها ألفاظ موهمة الظاهر صدرت من الكثير من أئمة القوم يعبرون عنها في اصطلاحهم بالشطحات تستشكل ظواهرها فمنكر ومحسن ومتأول‏.‏ فأما الكلام في المجاهدات والمقامات وما يحصل من الأذواق والمواجد في نتائجها ومحاسبة النفس على التقصير في أسبابها فأمر لا مدفع فيه لأحد وأذواقهم فيه صحيحة والتحقق بها هو عين السعادة وأما الكلام في كرامات القوم وإخبارهم بالمغيبات وتصرفهم في الكائنات فأمر صحيح غير منكر‏.‏ وإن مال بعض العلماء إلى إنكارها فليس ذلك من الحق‏.‏ وما احتج به الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايني من أئمة الأشعرية على إنكارها لالتباسها بالمعجزة فقد فرق المحققون من أهل السنة بينهما بالتحدي وهو دعوى وقوع المعجزة على وفق ما جاء به‏.‏ قالوا‏:‏ ثم إن وقوعها على وفق دعوى الكاذب غير مقدور لأن دلالة المعجزة على الصدق عقلية فإن صفة نفسها التصديق‏.‏ فلو وقعت مع الكاذب لتبدلت صفة نفسها وهو محال‏.‏ هذا مع أن الوجود شاهد بوقوع الكثير من هذه الكرامات وإنكارها نوع مكابر‏.‏ وقد وقع للصحابة وأكابر السلف كثير من ذلك وهو معلوم مشهور‏.‏ وأما الكلام في الكشف وإعطاء حقائق العلويات وترتيب صدور الكائنات فأكثر كلامهم فيه نوع من المتشابه لما أنه وجداني عندهم وفاقد الوجدان عندهم بمعزل عن أذواقهم فيه‏.‏ واللغات لا تعطي دلالة على مرادهم منه لأنها لم توضع إلا للمتعارف وأكثره من المحسوسات‏.‏ فينبغي أن لا نتعرض لكلامهم في ذلك ونتركه فيما تركناه من المتشابه‏.‏ ومن رزقه الله فهم شيء من هذه الكلمات على الوجه الموافق لظاهر الشريعة فأكرم بها سعادة‏.‏ وأما الألفاظ الموهمة التي يعبرون عنها بالشطحات ويؤاخذهم بها أهل الشرع فاعلم أن الإنصاف‏.‏ في شأن القوم أنهم أهل غيبة عن الحس والواردات تملكهم حتى ينطقوا عنها بما لا يقصدونه وصاحب الغيبة غير مخاطب والمجبور معذور‏.‏ فمن علم منهم فضله واقتداؤه حمل على القصد الجميل من هذا وأمثاله‏.‏ وإن العبارة عن المواجد صعبة لفقدان الوضع لها كما وقع لأبي يزيد البسطامي وأمثاله‏.‏ ومن لم يعلم فضله ولا اشتهر فمؤاخذ بما صدر عنه من ذلك إذا لم يتبين لنا ما يحملنا على تأويل كلامه‏.‏ وأما من تكلم بمثلها وهو حاضر في حسه ولم يملكه الحال فمؤاخذ أيضاً‏.‏ ولهذا أفتى الفقهاء وأكابر المتصوفة بقتل الحلاج لأنه تكلم في حضور وهو مالك لحاله‏.‏ والله أعلم‏.‏ وسلف المتصوفة من أهل الرسالة أعلام الملة الذين أشرنا إليهم من قبل لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب ولا هذا النوع من الإدراك إنما همهم الاتباع والاقتداء ما استطاعوا‏.‏ ومن عرض له شيء من ذلك أعرض عنه ولم يحفل به بل يفرون منه ويرون أنه من العوائق والمحن وأنه إدراك من إدراكات النفس مخلوق حادث وأن الموجودات لا تنحصر في مدارك الإنسان‏.‏ وعلم الله أوسع وخلقه أكبر وشريعته بالهداية أملك فلم ينطقوا بشيء مما يدركون‏.‏ بل حظروا الخوض في ذلك ومنعوا من يكشف له الحجاب من أصحابهم من الخوض فيه والوقوف عنده بل ويلتزمون طريقتهم كما كانوا في عالم الحس قبل الكشف من الاتباع والاقتداء ويأمرون أصحابهم بالتزامها‏.‏ وهكذا ينبغي أن يكون حال المريد‏.‏ والله الموفق للصواب‏.‏